سورة الأعراف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قوله: {المص} قد تقدّم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة، وهو إما مبتدأ وخبره {كتاب} أي {المص} حروف {كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ} أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا {المص} أي المسمى به، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له، و{كتاب} خبر المبتدأ على الوجه الأوّل، أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني، أي هو كتاب. قال الكسائي: أي هذا كتاب، و{أنزل إليك} صفة له. {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} الحرج: الضيق، أي لا يكن في صدرك ضيق منه، من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك، فإن الله حافظك وناصرك. وقيل: المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} وقال مجاهد وقتادة: الحرج هنا الشك، لأن الشاك ضيق الصدر، أي لا تشك في أنه منزل من عند الله، وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وسلم من باب التعريض، والمراد أمته، أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في {منه} راجع إلى الكتاب، فعلى الوجه الأوّل: يكون على تقدير مضاف، أي من إبلاغه، وعلى الثاني: يكون التقدير من إنزاله، والضمير في {لِتُنذِرَ بِهِ} راجع إلى الكتاب، أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل، أي أنزل إليك لإنذارك للناس به، أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في كونه منزلاً من عند الله، أو انتفاء الخوف من قومه يقوّيه على الانذار ويشجعه، لأن المتيقن يقدم على بصيرة، ويباشر بقوّة نفس.
قوله: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذكرى التذكير. قال البصريون: الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الكسائي: هي في محل رفع عطفاً على كتاب، ويجوز النصب على المصدر، أي وذكر به ذكرى قاله البصريون. ويجوز الجر حملاً على موضع {لتنذر} أي للإنذار والذكرى، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين، لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.
قوله: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} يعني: الكتاب، ومثله السنة لقوله: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ونحوها من الآيات، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته. وقيل: هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله، فالضمير على هذا في {مِن دُونِهِ} يرجع إلى ربّ، ويجوز أن يرجع إلى {ما} في {ما أنزل إليكم} أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم، كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم.
قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} انتصاب {قليلاً} على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر، أي تذكراً قليلاً، و{ما} مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل {لا تتبعوا} و{ما} مصدرية، أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً تذكرهم، قرئ: {تَذَكرُونَ} بالتخفيف بحذف إحدى التاءين، وقرئ بالتشديد على الإدغام.
قوله: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} {كم} هي الخبرية المفيدة للتكثير، وهي في موضع رفع على الابتداء و{أهلكناها} الخبر، {من} قرية تمييز، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها، لأن لها صدر الكلام، ولولا اشتغال {أهلكناها} بالضمير لجاز انتصاب {كم} به، والقرية موضع اجتماع الناس، أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها، أو أهلكنا أهلها، والمراد أردنا إهلاكها.
قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مرّ؛ لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس.
وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى: أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها. وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية؛ فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل المعنى: وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا، والبأس: هو العذاب. وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا. {بَيَاتًا} أي ليلاً، لأنه يبات فيه، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً، وهو مصدر واقع موقع الحال، أي بائتين.
قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} معطوف على {بياتاً} أي بائتين أو قائلين، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالاً لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال، هكذا قال الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو، تقول: جاءني زيد راكباً، أو هو ماش، لأن في الجملة ضميراً قد عاد إلى الأوّل، و{أو} في هذا الموضع للتفصيل لا للشك. والقيلولة هي نوم نصف النهار. وقيل: هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدّة الحرّ من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة، فمجيء العذاب فيهما أشدّ وأفظع.
قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} الدعوى: الدعاء، أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب، إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس: 10] أي آخر دعائهم. وقيل: الدعوى هنا بمعنى الادّعاء، والمعنى: ما كان ما يدّعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، واسم كان {إِلاَّ أَن قَالُواْ} وخبرها {دعواهم} ويجوز العكس، والمعنى: ما كان دعواهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.
قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} هذا وعيد شديد، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام لام القسم، أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم، والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية {وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} أي الأنبياء الذين بعثهم الله، أي نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى. وقيل المعنى: فلنسألن الذين أرسل إليهم، يعني الأنبياء، ولنسألن المرسلين، يعني الملائكة، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه: {وَلاَ يسأَل عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] لما قدّمنا غير مرة أن الآخرة مواطن، ففي موطن يسألون، وفي موطن لا يسألون، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى، بالنسبة إلى يوم القيامة، فإنه محمول على تعدّد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} أي على الرسل والمرسل إليهم، ما وقع بينهم عند الدعوة منهم بعلم لا بجهل، أي عالمين بما يسرون وما يعلنون {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه، عن ابن عباس، في قوله: {المص} قال: أنا الله أفصل.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي من أسماء الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {المص} قال: هو المصوّر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {المص} قال: الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال معناه: أنا الله الصادق، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن، وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك، والحق ما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} قال: الشك، وقال الأعرابيّ: ما الحرج فيكم؟ قال: اللبس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال: ضيق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود: ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم، ثم قرأ: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} الآية.
وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} قال: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلغوا، {فلنقصنّ عليهم بعلم} قال: بوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
وأخرج عبد بن حميد، عن فرقد، في الآية قال: أحدهما الأنبياء، وأحدهما الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال: نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله، ونسأل جبريل.


قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} الوزن مبتدأ وخبره الحق، أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه، أو الخبر يومئذ، والحق وصف للمبتدأ، أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم وقيل: إن الحق خبر مبتدأ محذوف.
واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم، فقيل: المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً، وهذا هو الصحيح، وهو الذي قامت عليه الأدلة وقيل: توزن نفس الأعمال، وإن كانت أعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح: «إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرْقان من طير صوافّ» وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقيل: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكرهما من باب ضرب المثل، كما تقول هذا الكلام في وزن هذا. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا، فليحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى. والحق هو: القول الأوّل.
وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.
وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء: 47]، وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون}
[المؤمنون: 102، 103]، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6-9].
والفاء في {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} للتفصيل. والموازين: جمع ميزان، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال. وقيل: إن الموازين جمع موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة، والأوّل: أولى. وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله. وقيل: وهو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى {من} والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير {موازينه} باعتبار لفظه هو مبتدأ خبره {هُمْ المفلحون} والكلام في قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} مثله، والباء في {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} سببية، و{ما} مصدرية. ومعنى {يَظْلِمُونَ} يكذبون.
قوله: {وَلَقَدْ مكناكم فِى الأرض} أي جعلنا لكم فيها مكاناً وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش. والمعايش جمع معيشة، أي ما يتعايش به من المطعوم والمشروب، وما تكون به الحياة، يقال عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشاً. قال الزجاج: المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج {معائش} بالهمز، وكذا روى خارجة بن مصعب، عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحدة معيشة والياء أصلية، كمدينة ومداين، وصحيفة وصحايف. قوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} الكلام فيه كالكلام فيما تقدّم قريباً من قوله تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
قوله: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده. والمعنى: خلقناكم نطفاً ثم صوّرناكم بعد ذلك، وقيل المعنى: خلقنا آدم من تراب، ثم صورناكم في ظهره. وقيل: {وَلَقَدْ خلقناكم} يعني: آدم ذكر بلفظ الجمع؛ لأنه أبو البشر، {ثُمَّ صورناكم} راجع إليه، ويدلّ عليه: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصوّر آدم عليه السلام.
وقال الأخفش: إن {ثم} في {ثُمَّ صورناكم} بمعنى الواو. وقيل المعنى: خلقناكم من ظهر آدم، ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال وقيل المعنى: ولقد خلقنا الأرواح أوّلاً، ثم صوّرنا الأشباح، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر، وفعلوا السجود بعد الأمر {إِلاَّ إِبْلِيسَ} قيل: الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس؛ لأنه كان منفرداً بينهم، أو كما قيل: لأن من الملائكة جنساً يقال لهم الجنّ.
وقيل: غير ذلك.
وقد تقدّم تحقيقه في البقرة. قوله: {لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين}.
جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء، ومن جعل الاستثناء منقطعاً قال معناه: لكن إبليس لم يكن من الساجدين، وجملة: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال له الله؟ و(لا) في {أَلا تَسْجُدَ} زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75]؛ وقيل إن منع بمعنى قال، والتقدير: من قال لك أن لا تسجد؛ وقيل منع بمعنى دعا، أي ما دعاك إلى أن لا تسجد. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد {إِذْ أَمَرْتُكَ} أي وقت أمرتك، وقد استدل به على أن الأمر للفور، والبحث مقرر في علم الأصول، والاستفهام في {مَا مَنَعَكَ} للتقريع والتوبيخ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وجملة: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب {أنا خير منه} ولم يقل: منعني كذا، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه. والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. ثم علل ما ادّعاه من الخيرية بقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين.
وقد أخطأ عدوّ الله، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه، وطول بقائه، وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، ولولا سبق شقاوته، وصدق كلمة الله عليه، لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري.
وجملة {قَالَ فاهبط} استئنافية كالتي قبلها، والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر، أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم، إلى الأرض التي هي مقرّ من يعصي ويطيع، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر، ويعصى أمر ربه مثلك، ولهذا قال: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا}. ومن التفاسير الباطلة ما قيل إن معنى {اهبط مِنْهَا} أي أخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها صورة مشوّهة مظلمة؛ وقيل المراد هبوطه من الجنة. وقيل من زمرة الملائكة، وجملة {فاخرج} لتأكيد الأمر بالهبوط، وجملة {إنك من الصاغرين} تعليل للأمر، أي إنك من أهل الصغار، والهوان على الله، وعلى صالحي عباده، وهكذا كل من تردّى برداء الاستكبار، عوقب بلبس رداء الهوان والصغار.
ومن ليس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع.
وجملة: {قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} استئنافية كما تقدّم في الجمل السابقة، أي أمهلني إلى يوم البعث، وكأنه طلب أن لا يموت، لأن يوم البعث لا موت بعده، والضمير في {يُبْعَثُونَ} لآدم وذريته، فأجابه الله بقوله: {إِنَّكَ مِنَ المنظرين} أي الممهلين إلى ذلك اليوم، ثم تعاقب بما قضاه الله لك، وأنزله بك في دركات النار. قيل: الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد، ليعرف من يطيعه ممن يعصيه.
وجملة: {قَالَ فبِمَا أَغْوَيْتَنِى} مستأنفة كالجمل السابقة، واردة جواباً لسؤال مقدّر، والباء في {فبِمَا} للسببية، والفاء لترتيب الجملة على ما قبلها. وقيل: الباء للقسم كقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] أي فباغوائك إياي {لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} والإغواء: الإيقاع في الغيّ. وقيل: الباء بمعنى اللام، وقيل: بمعنى مع. والمعنى: فمع إغوائك إياي. وقيل: {ما} في {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} للاستفهام. والمعنى: فبأي شيء أغويتني؟ والأوّل: أولى. ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سبباً لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه، وأن ذلك كان بإغواء الله له، حتى اختار الضلالة على الهدى. وقيل: أراد به اللعنة التي لعنه الله، أي فبما لعنتني فأهلكتني، لأقعدنّ لهم ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] أي هلاكاً.
وقال ابن الأعرابي: يقال: غوى الرجل يغوي غياً، إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه، ومنه: {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] أي فسد عيشه في الجنة {لأقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي لأجهدنّ في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم. والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. وانتصابه على الظرفية، أي في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن، واللام في {لأقعدنّ} لام القسم، والباء في {فبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} متعلقة بفعل القسم المحذوف، أي فبما أغويتني أقسم لأقعدنّ.
قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} ذكر الجهات الأربع؛ لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوّه، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين ب {من} وإلى الآخريين ب {عن} لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجهاً إلى ما يأتيه بكلية بدنه، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفاً، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاوزة، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة. وقيل المراد: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من دنياهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من آخرتهم {وَعَنْ أيمانهم} من جهة حسناتهم {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} من جهة سيئاتهم، واستحسنه النحاس. قوله: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} أي وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين، لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم، وهذا قاله على الظنّ، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. وقيل: إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله، وعبر بالشكر عن الطاعة أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء.
وجملة {قَالَ اخرج مِنْهَا} استئناف، كالجمل التي قبلها، أي من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدّم {مَذْءومًا} أي مذموماً من ذأمه إذا ذمَّه، يقال: ذأمته وذممته بمعنى. وقرأ الأعمش {مذموماً}. وقرأ الزهريّ {مذوماً} بغير همزة؛ وقيل المذءوم: المنفي، والمدحور: المطرود. قوله: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم، وجوابه: {لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وقيل: اللام في {لَّمَن تَبِعَكَ} للتوكيد، وفي {لأَمْلاَنَّ} لام القسم. والأوّل: أولى، وجواب القسم سدّ مسدّ جواب الشرط، لأن مَنْ شرطية، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره. وقرأ عاصم في رواية عنه {لَّمَن تَبِعَكَ} بكسر اللام، وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره والله أعلم، من أجل من اتبعك كما يقال: أكرمت فلاناً لك. وقيل: هو علة لا خرج، وضمير {مّنكُمْ} له ولمن اتبعه، وغلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، والأصل منك ومنهم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} قال: العدل {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} قال: حسناته {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} قال: حسناته.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي، توزن الأعمال.
وقد ورد في كيفية الميزان والوزن والموزون أحاديث كثيرة.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدّ البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربّ، فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنّه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» وقد صححه أيضاً الترمذي، وإسناده أحمد حسن.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} قال: خلقوا في أصلاب الرجال، وصوّروا في أرحام النساء.
وأخرج الفريابي عنه أنه قال: خلقوا في ظهر آدم، ثم صوّروا في الأرحام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً قال: أما {خلقناكم} فآدم، وأما {ثم صوّرناكم} فذريته.
وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، في الآية قال: خلق إبليس من نار العزة.
وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: أوّل من قاس إبليس في قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وإسناده صحيح إلى الحسن.
وأخرج أبو نعيم في الحلية، والديلمي، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه، قرنه الله يوم القيامة بإبليس، لأنه اتبعه بالقياس، وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث، فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوّة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: {فبِمَا أَغْوَيْتَنِى} أضللتني.
وأخرج عبد بن حميد، عنه، في قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} قال: طريق مكة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} قال: أشككهم في آخرتهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} قال: أرغبهم في دنياهم {وَعَنْ أيمانهم} أشبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} قال: أسنّ لهم المعاصي وأحق عليهم الباطل {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} قال: موحدين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} يقول: من حيث يبصرن {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من حيث لا يبصرون {وَعَنْ أيمانهم} من حيث يبصرون {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من حيث لا يبصرون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عنه، أيضاً في الآية قال: لم يستطع أن يقول من فوقهم. وفي لفظ علم أن الرحمة تنزل من فوقهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {مَذْءومًا} قال: ملوماً، مدحوراً: قال مقيتاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {مَذْءومًا} قال: منفياً {مَّدْحُورًا} قال: مطروداً.


قوله: {ويا ءادَمَ} هو على تقدير القول، أي وقلنا يا آدم. قال له هذا القول، بعد إخراج إبليس من الجنة، أو من السماء، أو من بين الملائكة كما تقدّم.
وقد تقدّم معنى الإسكان، ومعنى: {ولا تَقْرَبَا هذه الشجرة} في البقرة. ومعنى: {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} من أيّ نوع من أنواع الجنة شئتما أكله، ومثله ما تقدّم من قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] وحذف النون من {فَتَكُونَا} لكونه معطوفاً على المجزوم، أو منصوباً على أنه جواب النهي.
قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} الوسوسة: الصوت الخفي، والوسوسة: حديث النفس، يقال وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً بكسر الواو، والوسوسة بالفتح الاسم: مثل الزلزلة والزلزال، ويقال لهمس الصائد والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. قال الأعشى:
تسمع للحليّ وسواساً إذا انصرفت ***
والوسواس: اسم الشيطان. ومعنى وسوس له: وسوس إليه، أو فعل الوسوسة لأجله. قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي ليظهر لهما، واللام للعاقبة، كما في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. وقيل هي لام كي، أي فعل ذلك ليتعقبه الإيذاء، أو لكي يقع الإيذاء. قوله: {مَا وُورِيَ} أي ما ستر وغطي {عَنْهُمَا مِنَ سَوآتِهِما} سمي الفرج سوءة، لأن ظهوره يسوء صاحبه، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما، فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما، ولا يراها أحدهما من الآخر، وإنما لم تقلب الواو في {مَا وُورِيَ} همزة، لأن الثانية مدة. قيل: إنما بدت عورتهما لهما لا لغيرهما، وكان عليهما نور يمنع من رؤيتها {وَقَالَ} أي الشيطان لهما {مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ} أكل هذه الشجرة {إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} {أن} في موضع نصب، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: ولا كراهة أن تكونا ملكين، هكذا قال البصريون.
وقال الكوفيون: التقدير لئلا تكونا ملكين {أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} في الجنة، أو من الذين لا يموتون. قال النحاس: فضل الله الملائكة على جميع الخلق في غير موضع في القرآن، فمنها هذا، ومنها: {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} [هود: 31]، ومنها {وَلاَ الملئكة المقربون} [النساء: 172]. قال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، وأطالوا الكلام في غير طائل، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه، فالكلام فيها لا يعنينا. وقرأ ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير، والضحاك {ملكين} بكسر اللام، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال: لم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين.
وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120]. قال أبو عبيد: هذه حجة بينة لقراءة الكسر، ولكنّ الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: هي قراءة شاذة، وأنكر على أبي عبيد، هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش. قال وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين؟ وإنما معنى {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} المقام في ملك الجنة والخلود فيه.
قوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} أي حلف لهما فقال: أقسم قساماً أي حلف، ومنه قول الشاعر:
وقاسمهما بالله جهداً لأنتما *** ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدلّ على المشاركة، فقد جاءت كثيراً لغير ذلك.
وقد قدّمنا تحقيق هذا في المائدة، والمراد بها هنا المبالغة في صدور الأقسام لهما من إبليس. وقيل: إنهما أقسما له بالقبول، كما أقسم لهما على المناصحة، قوله: {فدلاهما بِغُرُورٍ} التدلية والإدلاء: إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال أدلى دلوه: أرسلها، والمعنى: أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة. وقيل معناه: أوقعهما في الهلاك. وقيل: خدعهما، وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته *** وترى اللئيم مجرباً لا يخدع
وقيل معنى: {دلاهما} دللهما من الدالة، وهي الجرأة، أي جرأهما على المعصية، فخرجا من الجنة. قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سوآتِهِما} أي لما طعماها ظهرت لهما عوراتهما، بسبب زوال ما كان ساتراً لهما، وهو تقلص النور الذي كان عليها.
وقد تقدّم في البقرة، قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} طفق يفعل كذا، بمعنى شرع يفعل كذا.
وحكى الأخفش: طفق يطفق مثل ضرب يضرب أي شرعا أو جعلا يخصفان عليهما. قرأ الحسن {يخصفان} بكسر الخاء وتشديد الصاد، والأصل يختصفان، فأدغم وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء. وقرأ الزهري {يخصفان} من أخصف. وقرأ الجمهور {يخصفان} من خصف. والمعنى: أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها، من خصف النعل: إذا جعله طبقة فوق طبقة {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} قائلاً لهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} التي نهيتكما عن أكلها، وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ، حيث لم يحذرا ما حذرهما منه {وَأَقُل لَّكُمَا} معطوف على {أنهكما} {إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي مظهر للعداوة.
قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} جملة استئنافية مبنية على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قالا؟ وهذا منهما اعتراف بالذنب، وأنهما ظلما أنفسهما مما وقع منهما من المخالفة، ثم قالا: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}.
وجملة {قَالَ اهبطوا} استئناف كالتي قبلها، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو لهما ولإبليس، وجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} في محل نصب على الحال {وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ} أي موضع استقرار ولكم {متاع} تتمتعون به في الدنيا، وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما {إلى حِينٍ} أي إلى وقت، وهو وقت موتكم.
وجملة {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} استئنافية كالتي قبلها، أي في الأرض تحيون، وفيها يأتيكم الموت، ومنها تخرجون إلى دار الآخرة، ومثله قوله تعالى: {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] واعلم أنه قد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه.
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن وهب بن منبه في قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} قال: كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما سوءة صاحبه، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: أتاهما إبليس فقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين مثله، يعني مثل الله عزّ وجلّ، فلم يصدّقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في الآية {إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين فلا تموتان فيها أبداً {وَقَاسَمَهُمَا} قال: حلف لهما {إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب، في قوله: {فدلاهما بِغُرُورٍ} قال: مناهما بغرور.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي شيبة، عن عكرمة قال: لباس كل دابة منها، ولباس الإنسان الظفر، فأدركت آدم التوبة عند ظفره.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: كان لباس آدم وحواء كالظفر، فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قال: ينزعان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال، فبقي في أطراف أصابعه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، نحوه من طريق أخرى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك، قال: كان لباس آدم في الجنة الياقوت، فلما عصى قلص فصار الظفر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} قال: يرقعان كهيئة الثوب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} قال آدم: ربّ إنه حلف لي بك، ولم أكن أعلم أن أحداً من خلقك يحلف بك إلا صادقاً، وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية قال: هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك مثله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8